قصة كاملة ....لم يؤلفها بشر
منقولة على لسان : علي الطنطاوي
جدة
دار المنارة
1425 ه 2004 - م
كنت أسرد في الذكریات أحداث حیاتي ، فقال قوم : هلا نوعت الأسالیب وذكرت ما مر بك من وقائع
الناس ، ولم تقصر حدیثك على نفسك ، فجربت أن أصنع ما قالوا ، فسردت خبر واقعتین ، عندي من
أمثالهما الكثیر ، فأعجب بهما جل القارئین ، وقال ناس : إنها ممتعة ، ولكنها لیست ذكریات .
قلت : ولِمَ لا تكون من الذكریات ؟ وهل الذكریات إلا ما وقع لي أنا ، وما رأیت وما سمعت به أو
قرأته ، ولقد قرأت في هذه السنین التي عشتها من القصص الأدبیة ، وقصص المغامرات وما
یسمونه : ( القصص البولیسیة ) ما لا یحصیه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م –
في الصحافة ناقدا مسرحیا ، أشهد الروایة ، أو أرى الفلم في السینما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقیة
مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغیرا .
ولكني لن أعرض في الذكریات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أدیب
قصصي ، ولا عمل فیها خیال روائي ، بل ألفتها الحیاة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبدایاتها ،
وخواتیمها ، أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكریات ، وما
تخیلت أحداثها تخیلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصیاغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون
من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخیال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم یصدقني
منكم بأنها واقعة .
ومن الوقائع ما هو أغرب من الخیال .
1986 م في جریدة /11 / كِنت ذاهبا إلى بیروت من أكثر من أربعین سنة ( نشرت هذه في 27
الشرق الأوسط ) في سیارة صغیرة ، لصدیق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت
بجنبنا سیارة " شیفرولیت " من المقیاس الواسع ، جدیدة مسرعة ، فمشینا وراءها ، وإذا هي تسابق
السیارات ، كلما رأت سیارة أسرعت حتى تسبقها ، فیصیح من فیها ویضحكون ویصفقون ، فلما
رأینا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبیر ، حیث یمشي
الطریق على شفیر الوادي ، یشرف على سهل البقاع ، رأیناها تحاول أن تسبق سیارة صهریج كبیرة
من التي تنقل البنزین ، ضخمة كلها من الحدید ، وكانت ترید أن تدور ، فلم تنتظر السیارة الصغیرة
دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهریج علیها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة
في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سیارتنا ووقفت السیارات المارة
كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إلیها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد
أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحیاء ، ووجدنا فتاة شابة إلى جنب السیارة قد أصابها الإغماء ولكن
یبدو أنها سلیمة ، أما باقي الركاب فقد صاروا عجینة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي یمكن أن
تراها العین ، قد اختلط فیها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطریق
الدولي في ألمانیا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السیارات في المسرى الأیسر من الطریق بسرعة
تزید دائما عن المائة والخمسین كیلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف
فیكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شیئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى
السیارات لطلبها من المریجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبیب والشرطة ،
وجعل الناس ینصرفون یتابعون طریقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت یومئذ من رجال القضاء ،
فاستمعت أول التحقیق وأمسكت بطرف الخیط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقیة القصة واطلعت
على الأوراق ، وجمعت الخیوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم
عدالتك یا رب ؟ !
ووجدت قصة فیها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بین أوراقي ، حتى جئت الیوم أقلب هذه
الأوراق القدیمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حدیثها .
كانت بنتا جمیلة ، وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط الید ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال
، وأن تطلب فتعطى .
فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها
مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ، فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟
قال : بلى .
وعقد العقد ، ووصاها أبوها حین زفها إلى زوجها ، أن تكون لحمیها – أي لوالد زوجها – بنتا لیكون
لها أبا ، وأن تمنحه التوقیر والطاعة ، لیخلص لها الرعایة والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن
تثق بها ، ولا تكذب علیها ولا تخالف أمرها .
ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاة لأنه كان لها من طبیعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما یدفعها إلى
الصدق والاستقامة ، ویمنعها من الانحراف والكذب .
وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :
الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب یرید لها الخیر والإسعاد ، ولكنه لا یملك مع أبیه في
الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهیا .
وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعیدة في ظاهرها ، ولكنها شقیة في حقیقتها ، فهي لهذا تحسد كل
بنت متزوجة سعیدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .
وأم الزوج ، وهي امرأة بخیلة شحیحة العین ، مقبوضة الكف ، ربها الدینار ، ودینها جمع المال ،
ودستورها ادخار الدرهم الأبیض للیوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه
وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزیائها یمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت
هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غیظها على بنات هذا الجیل الجدید ، وترحمت على
جیلها وزمانها .
منقولة على لسان : علي الطنطاوي
جدة
دار المنارة
1425 ه 2004 - م
كنت أسرد في الذكریات أحداث حیاتي ، فقال قوم : هلا نوعت الأسالیب وذكرت ما مر بك من وقائع
الناس ، ولم تقصر حدیثك على نفسك ، فجربت أن أصنع ما قالوا ، فسردت خبر واقعتین ، عندي من
أمثالهما الكثیر ، فأعجب بهما جل القارئین ، وقال ناس : إنها ممتعة ، ولكنها لیست ذكریات .
قلت : ولِمَ لا تكون من الذكریات ؟ وهل الذكریات إلا ما وقع لي أنا ، وما رأیت وما سمعت به أو
قرأته ، ولقد قرأت في هذه السنین التي عشتها من القصص الأدبیة ، وقصص المغامرات وما
یسمونه : ( القصص البولیسیة ) ما لا یحصیه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م –
في الصحافة ناقدا مسرحیا ، أشهد الروایة ، أو أرى الفلم في السینما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقیة
مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغیرا .
ولكني لن أعرض في الذكریات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أدیب
قصصي ، ولا عمل فیها خیال روائي ، بل ألفتها الحیاة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبدایاتها ،
وخواتیمها ، أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكریات ، وما
تخیلت أحداثها تخیلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصیاغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون
من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخیال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم یصدقني
منكم بأنها واقعة .
ومن الوقائع ما هو أغرب من الخیال .
1986 م في جریدة /11 / كِنت ذاهبا إلى بیروت من أكثر من أربعین سنة ( نشرت هذه في 27
الشرق الأوسط ) في سیارة صغیرة ، لصدیق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت
بجنبنا سیارة " شیفرولیت " من المقیاس الواسع ، جدیدة مسرعة ، فمشینا وراءها ، وإذا هي تسابق
السیارات ، كلما رأت سیارة أسرعت حتى تسبقها ، فیصیح من فیها ویضحكون ویصفقون ، فلما
رأینا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبیر ، حیث یمشي
الطریق على شفیر الوادي ، یشرف على سهل البقاع ، رأیناها تحاول أن تسبق سیارة صهریج كبیرة
من التي تنقل البنزین ، ضخمة كلها من الحدید ، وكانت ترید أن تدور ، فلم تنتظر السیارة الصغیرة
دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهریج علیها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة
في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سیارتنا ووقفت السیارات المارة
كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إلیها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد
أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحیاء ، ووجدنا فتاة شابة إلى جنب السیارة قد أصابها الإغماء ولكن
یبدو أنها سلیمة ، أما باقي الركاب فقد صاروا عجینة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي یمكن أن
تراها العین ، قد اختلط فیها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطریق
الدولي في ألمانیا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السیارات في المسرى الأیسر من الطریق بسرعة
تزید دائما عن المائة والخمسین كیلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف
فیكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شیئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى
السیارات لطلبها من المریجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبیب والشرطة ،
وجعل الناس ینصرفون یتابعون طریقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت یومئذ من رجال القضاء ،
فاستمعت أول التحقیق وأمسكت بطرف الخیط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقیة القصة واطلعت
على الأوراق ، وجمعت الخیوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم
عدالتك یا رب ؟ !
ووجدت قصة فیها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بین أوراقي ، حتى جئت الیوم أقلب هذه
الأوراق القدیمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حدیثها .
كانت بنتا جمیلة ، وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط الید ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال
، وأن تطلب فتعطى .
فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها
مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ، فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟
قال : بلى .
وعقد العقد ، ووصاها أبوها حین زفها إلى زوجها ، أن تكون لحمیها – أي لوالد زوجها – بنتا لیكون
لها أبا ، وأن تمنحه التوقیر والطاعة ، لیخلص لها الرعایة والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن
تثق بها ، ولا تكذب علیها ولا تخالف أمرها .
ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاة لأنه كان لها من طبیعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما یدفعها إلى
الصدق والاستقامة ، ویمنعها من الانحراف والكذب .
وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :
الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب یرید لها الخیر والإسعاد ، ولكنه لا یملك مع أبیه في
الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهیا .
وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعیدة في ظاهرها ، ولكنها شقیة في حقیقتها ، فهي لهذا تحسد كل
بنت متزوجة سعیدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .
وأم الزوج ، وهي امرأة بخیلة شحیحة العین ، مقبوضة الكف ، ربها الدینار ، ودینها جمع المال ،
ودستورها ادخار الدرهم الأبیض للیوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه
وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزیائها یمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت
هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غیظها على بنات هذا الجیل الجدید ، وترحمت على
جیلها وزمانها .
عدل سابقا من قبل صاحب الإمتياز في الأحد فبراير 15, 2009 6:25 am عدل 1 مرات